1. صحة الحديث والرد على من أنكره

    هذا الحديث متفق عليه، رواه الإمام البخاري والإمام مسلم، ورواه غيرهما من الأئمة، فهو حديث صحيح ثابت، ومن رده فقد ردَّ حديثاً صحيحاً ثابتاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا دليل له على رده، ولم يرده أحد أولم يعمل به بناءً على دليل علمي أو شبهة، وإنما غاية ما عندهم أن يقولوا: إنه مخالف للقطعيات أو للكليات، أو مخالف للأصول، أو ما أشبه ذلك، وهذا كله من معارضة الحق بالباطل؛ لأن الأصول والقطعيات عندنا هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهناك فرق بين القواعد العقلية والقواعد الشرعية: فالقواعد العقلية لا تقبل التخصيص، فإذا وُجدت جزئية واحدة، أو مثال واحد لا تنطبق عليه القاعدة؛ بطلت القاعدة.
    أما القواعد الشرعية: فإنها وإن كانت قطعية فإنها تقبل التخصيص وتقبل التقييد.
    فهذا الحديث وأمثاله هو أصل برأسه، إذْ قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم وصحّ عنه، ولا يقال: إنه عارض الأصول.
  2. ذكر روايات الحديث التي في الصحيح

    وقد رواه الأئمة عن جمع من الصحابة، منهم: أبو سعيد الخدري، وحذيفة، وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهم، وغيرهم كما في بعض الروايات، لكن هذه الروايات هي التي في الصحيح، فقد رواه الإمام البخاري عن هؤلاء الثلاثة:
  3. رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

    الرواية الأولى: رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن رجلاً كان قبلكم رغسه الله مالاً، فقال لبنيه لما حُضر: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيراً قط، فإذا متُ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذرُّوني في يومٍ عاصف، ففعلوا، فجمعه الله عز وجل، فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته}.
    هذا الرجل من بني إسرائيل ممن كان قبلنا {رغسه الله مالاً} أي: أعطاه الله مالاً ووسع عليه، وقيل: إن الرواية الصحيحة {رأسه}.
    {فقال لبنيه لما حُضر} أي: عندما جاءه الموت وحضره، {أي أبٍ كنتُ لكم؟} يسأل أبناءه فيقول لهم: يا أبنائي! كيف كانت أبوتي ومعاملتي لكم؟ {قالوا: خير أب}، وأبوهم يريد بذلك أن يستوثق منهم، فكأنه يقول: مقابل إحساني إليكم وتربيتي لكم وأبوتي الحانية عليكم ... إلخ؛ أريد منكم أن تنقذوني من عذاب الله {قال: فإني لم أعمل خيراً قط}، ولا يلزم من كونه لم يعمل خيراً قط، أن يكون تاركاً لجميع الفرائض مرتكباً لجميع المحرمات، لكن قد يقال: إنه قالها هضماً للنفس، واعترافاً بالتقصير، فهذا الرجل لا ريب أنه من أهل التوحيد، وإلا لما استحق رحمة الله سبحانه وتعالى، فإن الكفار ملعونون مطرودون من رحمة الله، لكن هذا الرجل لم يعمل خيراً قط، ومعناه كما جاء في بعض الروايات: أنه أسرف على نفسه في المعاصي، وفرط في حق الله؛ تركاً للواجبات، وارتكاباً للمحظورات، فقال: {فإذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف} واليوم العاصف هو الذي تكون الريح فيه شديدة، فهو يريد منهم أن يذروه كما في قوله تعالى: ((تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ))[الكهف:45]، بمعنى: أن يحرقوه ثم يسحقوه ثم يطحنوه، ثم يذروه في يوم عاصف، فتذهب به الريح في كل مكان، {ففعلوا، فجمعه الله عز وجل، فقال: ما حملك؟}، أي: ما الذي دفعك إلى ذلك؟ وما الذي حملك على ما صنعت؟ وما سبب الإقدام على هذا الفعل؟ {قال: مخافتك، فتلقاه برحمته}.
  4. رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

    الرواية الثانية: رواية حذيفة رضي الله تعالى عنه أن عقبة قال له: ألا تحدثنا ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته يقول: {إن رجلاً حضره الموت، لما أيس من الحياة أوصى أهله}، وفي الرواية الأولى: (أبناءه)، قال: {إذا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً، ثم أوروا ناراً، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي، فخذوها فاطحنوها، فدرُّوني في اليم في يوم حارٍّ -أو راحٍّ-} (في اليم) أي: في البحر، (في يوم حارٍ -أو راحٍّ-)، قيل: من الحور، وقيل: في يوم حانٍ، فإن العرب تقول إذا اشتدت الريح: تحن كحنين الإبل، أو تحور كحور الإبل، (أو راحٍّ) أي: شديد الريح، {فجمعه الله، فقال: لِمَ فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر الله له، فقال عقبة: وأنا سمعته يقول}. فالحديث من رواية عقبة وحذيفة رضي الله عنهما.
  5. رواية أبي هريرة رضي الله عنه

    الرواية الثالثة: رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، إلا أنه قال في أولها: {كان رجل يسرف على نفسه في المعاصي، فلما حضره الموت قال لبنيه: ...} إلخ الحديث.
  6. شرح الحديث

    وقد ذكر الإمام البخاري رحمه الله هذا الحديث في كتاب الرقاق، وفي كتاب التوحيد، وفي كتاب أخبار الأنبياء، وبوب له في كتاب الرقاق: (باب الخوف من الله)، وهذا من فقه الإمام البخاري رحمه الله، وكما قال العلماء: فقه البخاري في تراجمه.
    ومن هنا نعلم ما يريده البخاري رحمه الله وما الذي يختاره في معنى هذا الحديث؛ لأن الحديث فيه خلاف كبير، فـالبخاري رحمه الله عندما يضعه في باب معين ويختار له ترجمة معينة؛ فإنه يضعه في الباب الذي يرى أنه يدل عليه، فقد قال رحمه الله وغفر له: (باب الخوف من الله)، فلينتبه لهذه الترجمة!
    عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً: {كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله}، ولهذا قال في الرواية الأولى: {لم أعمل خيراً قط}، وفي رواية: (لم يبتئر خيراً قط) فقد كان يسيء الظن بعمله، وقد جاء في بعض الروايات: أنه (كان نباشاً)، ينبش القبور فيسرق الأكفان وما قد يجد فيها، وهذا الفعل من أقبح أنواع الجرائم، فإن الإنسان إذا سرق الأحياء فهي جريمة بشعة وشنيعة، فكيف إذا سرق الأموات؟! ومعنى ذلك: أن الخوف من الله والخوف من الموت وتذكر الآخرة غائب عن ذهنه تماماً، فإن بعض الناس -وإن كان مسرفاً في المعاصي- إذا رأى جنازة أو ميتاً أو مقبرة خاف وارتدع، أما الذي يقدم على سرقة القبور ويحفرها وينبشها ليأخذ ما فيها من الأكفان؛ فإن هذا دليل على قسوة القلب وغلظته وبعده عن الله، وأنه لا يفكر في اليوم الآخر، ولا يخاف الله، ولا يرجو لقاءه، وهذا العمل وأعمال أخرى -كما يبدو من ظاهر الروايات- تستحق أن يُساءَ الظن بها.
    {فقال لأهله: إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف}، ولا تعارض بين الروايات، فقد ورد: {نصفه في البر ونصفه في البحر}، المهم أنه حدد لهم (في يوم صائف)، أي: يوم عاصف، شديد الرياح، فبعد أن تطحن عظامه يذر بعضها في البر وبعضها في البحر؛ ليكون -كما يظن- أصعب إعادة؛ فهو يظن أنه لو بقي على هيئته ووضع في القبر، فستكون إعادته سهلة، لكن إذا تفرق بهذا الشكل فسوف يغيب فكأنه يغيب ويتلاشى تماماً، ولن يبعث ولن يحاسب ولن يعاقب. قال: {ففعلوا به، فجمعه الله، ثم قال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ما حملني عليه إلا مخافتك، فغفر له}.
    وعن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً فيمن كان قبلكم آتاه الله مالاً وولداً}، أي: أعطاه الله مالاً وولداً، وفي الرواية السابقة: (رغسه أو رأسه)، وهي بمعنى واحد. {فلما حضر قال لبنيه: أي أبٍ كنت لكم؟} (أيّ) اسم استفهام منصوب على أنه خبر كان مقدم، {قالوا: خير أب} كما في الرواية الأولى، فهو أراد أن يستوثق منهم بأنهم سوف يمتثلون ما يريد، قال: {فإنه لم يبتئر عند الله خيراً فسرها قتادة: لم يدخر}، وهذه الرواية فيها الثقات، فإن الرجل قال: فإني لم أبتئر، لكن الصحابي أو الراوي عدل عن قوله: (فإني) فقال: (فإنه)، كما جاء في حديث موت أبي طالب قال: {هو على ملة عبد المطلب}، فعدل الراوي عن أن يقول: (أنا)، وهذا من حسن الكلام، أن يعدل الإنسان عما لا يستساغ أن يقوله، وخاصةً في مثل هذا الأمر؛ لأن فيه كفراً والعياذ بالله! وهنا الأمر أخف من الكفر، لكن الراوي عدل عنه فقال: {قال: فإنه لم يبتئر عند الله خيراً}، أي: قال الرجل لأبنائه: أنا لم أدخر عند الله خيراً قط، فمعنى ذلك: أنا قادم على مصير خطير، فماذا أرجو وقد حضر الموت وحان اللقاء؟ فيقول لأبنائه: لابد من حيلة، فأعينوني على الخلاص من هذه المشكلة، وكان الحل الذي تخيله وظنه هو هذا. قال: {وإن يقدم على الله يعذبه}، وفي بعض الروايات: {لئن قدر الله علي ليعذبني}، وهذا سنذكره فيما بعد؛ لأن قوله: (قدر) جاء في بعض الروايات فقط، ولذلك فقد أخطأ من قال: إن إنكاره أو شكه في قدرة الله ناشئ من قوله: (لئن قدر علي)، فإن قوله هذا ليس شرطاً في إنكاره للقدرة، فإن الروايات التي ذكرناها وليس فيها ذكر القدرة، الظاهر منها أنه ليس موقناً بقدرة الله.
    فالرجل يريد أن يتخلص ويفر من عقاب الله، وظن أن هذه الوسيلة مؤدية إلى الخلاص، فقال: {وإن يقدم على الله يعذبه، فانظروا فإذا مت فأحرقوني، حتى إذا صرتُ فحماً فاسحقوني -أو قال: فاسهكوني- ثم إذا كان ريحٌ عاصف فاذروني فيها}، وفي هذه الرواية زيادة بعض المعاني، فإن قوله: {إذا مت فأحرقوني، حتى إذا صرت فحماً} أي: اجمعوا حطباً، وأحرقوا الجسد حتى لا يبقى منه شيء، ثم إذا احترقت -أو امتحشت- العظام فاسحقوها، وانتظروا حتى إذا كانت ريح عاصف فاذروه فيها، واجعلوا بعضه في البر وبعضه في البحر، وهذا غاية ما يمكن أن يُتَصور من التلاشي، وفقدان المادة التي يعاد أو يبعث منها الإنسان.
    {فأخذ مواثيقهم على ذلك}، وعند مسلم : {فأخذ منهم يميناً}، فعاهدوه وحلفوا له بالأيمان أنه إذا مات أن يفعلوا به هكذا، فلما أخذ منهم الموثق على ذلك مات، والتقدير: فمات ففعلوا، {فقال الله: كن}، هذه قدرة الله تعالى كما قال سبحانه: ((قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ))[يس:78-79]، وقال عز وجل: ((كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ))[الأعراف:29] وقال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ))[الروم:27]، فهو أهون عليه، سبحانه وتعالى، ولا فرق عند الله تعالى سواء بقي الإنسان على هيئته، أو سحق وطحن، أو أكله السبع، أو الحوت، أو رمي في أي مكان ... فلا يؤثر ذلك في شيء من قدرة الله سبحانه وتعالى.
    فلهذا قال الله سبحانه وتعالى: {كن، فإذا رجلٌ قائم}، وهذا مصداق قوله تعالى: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))[يس:82]، فإذا رجلٌ قائم، من البر ومن البحر.. العظام المطحونة.. اللحم الذي أكلته النار.. كل شيء سحق وطحن وذُري، أعاده الله سبحانه وتعالى كما كان، فإذا به رجل قائم بين يدي الله سبحانه وتعالى.
  7. هل وقعت المساءلة للرجل من الله تعالى أم لم تقع؟

    يورد البعض سؤالاً حول قصة هذا الرجل فيقولون: هل وقعت المسائلة لهذا الرجل من الله على الحقيقة في قبره، أم أنه حكاية لما سيقع في يوم القيامة؟
    فالظاهر أنه وقع قبل يوم القيامة، وإن كان بعض العلماء يقول: إن هذا ذكر لما سيكون يوم القيامة.
    وعلى أية حال: إن كان ذلك قد وقع -وهو الظاهر الذي نراه- فهو ظاهر الحديث، وإذا لم يقع، فهو -كما ذكرنا- من باب أن الله سبحانه -وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم- قد يخبر عن أشياء مستقبلية لم تقع على أنها قد وقعت؛ لتيقن وتحقق وقوعها كما أخبر الله تعالى وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. {قال: كن، فإذا رجلٌ قائم، ثم قال: أي عبدي! ما حملك على ما فعلت؟ فقال: مخافتك، أو قال: فرقٌ منك}، والفرق: هو الخوف، قال: يا رب! مخافتك والفرق منك.